الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما ذكر سبحانه إنشاء هذه الشجرة بهذا الجبل البعيد عن مياه البحار لعلوه وصلابته أو بما حوله من الأرض الحارة، ذكر تميزها عن عامة الأشجار بوجه آخر عجيب فقال: {تنبت} أي بالماء الذي لا دهن فيه أصلًا، نباتًا على قراءة الجمهور، أو إنباتًا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وورش عن يعقوب بضم الفوقانية، ملتبسًا ثمره {بالدهن} وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وكأنه عرّفه لأنه أجلّ الأدهان وأكملها.ولما كان المأكول منها الدهن والزيتون قبل العصر، عطف إشعارًا بالتمكن فقال: {وصبغ} أي وتنبت بشيء يصبغ- أي يلون- الخبز إذا غمس فيه أو أكل به {للآكلين} وكأنه نكره لأن في الإدام ما هو أشرف منه وألذ وإن كانت بركته مشهورة؛ روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة».وللترمذي وابن ماجه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره كما نقله ابن كثير عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» وقال أبو حيان: وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع.ولما دل سبحانه وتعالى على قدرته بما أحيا بالماء حياة قاصرة عن الروح، أتبعه ما أفاض عليه به حياة كاملة فقال: {وإن لكم في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} تعبرون بها من ظاهر أمرها إلى باطنه مما له سبحانه فيها من القدرة التامة على البعث وغيره؛ ثم استأنف تفصيل ما فيها من العبرة قائلًا: {نسقيكم} ولما كان الأنعام مفردًا لكونه اسم جمع، ولم يذكر ما يسقى منه، أنث الضمير بحسب المعنى وعلم أن المراد ما يكون منه اللبن خاصة وهو الإناث، فهو استخدام لأنه لو أريد جميع ما يقع عليه الاسم لذكر الضمير، فلذلك قال: {مما في بطونها} أي نجعله لكم شرابًا نافعًا للبدن موافقًا للشهوة تلتذون به مع خروجه من بين الفرث والدم كما مضى في النحل {ولكم فيها} أي في جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيمًا لمنافعها حتى كأن غيرها عدم {منافع كثيرة} باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها، وبأولادها وأصوفها وأوبارها، وغير ذلك من آثارها.ولما كان التقدير: تصرفونها في تلك المنافع، عطف عليه مقدمًا للجار تعظيمًا لمأكولها فقال: {ومنها تأكلون} بسهولة من غير امتناع ما عن شيء من ذلك، ولو شاء لمنعها من ذلك وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج، أو جعله قذرًا لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها له.ولما كانت المفاوتة بين الحيوانات في القوى وسهولة الانقياد دالة على كمال القدرة، وكان الحمل للنفس والمتاع عليها وعلى غيرها من الحيوان من أجلّ المنافع بحيث لولا هو تعطلت أكثر المصالح، ذكره فيها مذكرًا بغيرها في البر تلويحًا، وذاكرًا لمحامل البحر تصريحًا، فقال مقدمًا للجار عدًا لحمل غيرها بالنسبة إلى حملها لعظيم وقعه عدمًا: {وعليها} أي الأنعام الصالحة للحمل من الإبل والبقر في البر {وعلى الفلك} في البحر.ولما كان من المعلوم من تذليلها على كبرها وقوتها وامتناع غيرها على صغره وضعفه أنه لا فاعل لذلك إلا الله مع أن الممتن به نفس الحمل لا بالنظر إلى شيء آخر، بني للمفعول قوله: {تحملون} بإنعامه عليكم بذلك، ولو شاء لمنعه، فتذكروا عظيم قدرته وكمال صنعته، وعظموه حق تعظيمه، واشكروه على ما أولاكم من تلك النعم، وأخلصوا له الدين، لتفلحوا فتكونوا من الوارثين. اهـ.
والثاني: أن مفعوله محذوف، أي تنبت زيتونها وفيه الزيت، قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك.أما قوله: {وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ} فعطف على الدهن، أي إدام للآكلين، والصبغ والصباغ ما يصطبغ به، أي يصبغ به الخبز، وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به.النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الحيوانات.{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}.اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملًا ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه: أحدها: قوله: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا في بُطُونِهَا} والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته.كان ذلك معدودًا في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا، وأيضًا فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شرابًا طيبًا، وإذا ذبحتها لم تجد لها أثرًا، وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى.قال صاحب الكشاف وقرئ {تسقيكم} بتاء مفتوحة، أي تسقيكم الأنعام وثانيها: قوله: {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} وذلك بيعها والانتفاع بأثمانها وما يجري مجرى ذلك وثالثها: قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني كما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضًا بالأكل ورابعها: قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} لأن وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر بمنزلة الانتفاع بالفلك في البحر، ولذلك جمع بين الوجهين في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا. اهـ.
فكانت الباء في بالفرج زائدة كذلك في الدهن وهي قراءة ابن مسعود.الثاني: أن الباء أصل وليست بزائدة، وقد قرئ تنبت بالدهن بفتح التاء الأولى إذا كانت التاء أصلًا ثابتًا. فإن كانت القراءة بضم التاء الأولى فمعناه تنبت وينبت بها الدهن ومعناهما إذا حقق متقارب وإن كان بينهما أدنى فرق. وقال الزجاج: معناه ينبت فيها الدهن، وهذه عبرة: أن تشرب الماء وتخرج الدهن.{وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ} أي إدام يصطبغ به الآكلون، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزَّيتُ مِنْ شَجَرةٍ مُبَارَكَةٍ فَائْتَدِمُواْ بِهِ وَادَّهِنُوا» وقيل إن الصبغ ما يؤتدم به سوى اللحم. اهـ.
ونحو هذا. وقالت فرقة: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن فالمفعول محذوف قاله أبو على الفارسي أيضًا وقد قيل نبت وأنبت بمعنى فيكون الفعل كما مضى في قراءة الجمهور والأصمعي ينكر البيت ويتهم قصيدة زهير التي فيها أَنبت البقل، وقرأ الزهري والحسن والأعرج تُنبَتُ برفع التاء ونصب الباء قال أَبو الفتح هي باء الحال أي تنبت ومعها دهنها وفي قراءة ابن مسعود تخرج بالدهن وهي أيضًا باء الحال وقرأ زر بن حبيش تُنبِت بضم التاء وكسر الباء الدهن بحذف الباء ونصبه وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف والمراد في هذه الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها ويدخل في معنى الزيتونة شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار وقرأت فرقة، وصبغ، وقرأت فرقة وأصباغ بالجمع، وقرأ عامر بن عبد قيس، {ومتاعًا للآكلين}.{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}.{الأنعام} هي الإبل والبقر والضأن والمعز و العبرة في خلقتها وسائر اخبارها، وقرأ الجمهور: {نُسقيكم} بضم النون من أسقى، ورويت عن عاصم، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر {نَسقيكم} بفتح النون من سقى، فمن الناس من قال هما لغتان بمعنى، ومنهم من قال سقيته إذا أعطيته للشفة وأسقيته إذا جعلت له سقيًا لأرض أو ثمرة ونحوه، فكأن الله تعالى جعل الأنعام لعبيده سقيًا يشربون وينتجعون، وقرأ أبو جعفر {تسقيكم} بالتاء من فوق أَي تسقيكم الأنعام، و المنافع الحمل عليها وجلودها وأصوافها وأوبارها وغير ذلك مما يطول عده، و{الفلك}، السفن واحدها فلك الحركات في الواحد كحركات قفل والحركات في الجمع كحركات أسد وكتب. اهـ.
|